الدعاء هو عبادة الافتقار إلى الله، وهو من أفضل العبادات، وقد حث الله تعالى عليه وأمر به، فقال تعالى: (وَاسْأَلُواْ اللهَ مِن فَضْلِهِ)(النساء: 32)، وقال: (وَقَالَ رَبكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60)، والدعاء سنة الأنبياء والمرسلين، وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على أنبيائه بأوصاف ثلاثة: المسارعة في الخيرات، ودعاؤه رغبة ورهبة، والخشوع له، فقال تعالى: (إِنهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ في الْخَيْراتِ، وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً، وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ)(الأنبياء: 90)، وهو دأب الأولياء والصالحين، وقد وصف الله حال المؤمنين فقال عز من قائل: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِما رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (السجدة: 17).
مخ العبادة
وقد صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أن: (الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين ونور السماوات والأرض)، وهو مخ العبادة، بل هو العبادة، فعن النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، ثم قرأ: (وَقَالَ رَبكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ...)، وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء)، وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسألِ اللهَ يغضبْ عليه).
والدعاء كله خير، فعن أبي سعيد رفعه: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يُعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها)، وفي الترمذي عن عُبادة بن الصامت رضي اللّه تعالى عنه: أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: “ما على وَجْهِ الأرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللهَ تَعالى بِدَعْوَةٍ إلا آتاهُ اللهُ إياها، أوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السوءِ مِثْلَها ما لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ أوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ”، فقال رجل من القوم: إذاً نكثر، قال: “اللّه أكْثَرُ”.
والدعاء مفتاح أبواب الرحمة، وسبب لرفع البلاء قبل نزوله وبعد نزوله، لما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فُتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سئل الله شيئاً يُعطى أحب إليه من أن يسأل العافية، إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء)، وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “إِن اللهَ يَقُولُ أَنَا عِنْدَ ظَن عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي”.
التوبة أولاً
واعلم أن الأصل في إِجابة دعائك، التوبةُ ورد المظالم والإِقبال على اللّه تعالى، والافتقار إلى عفوه ومقدرته وعلمه، ومن أول آداب الدعاء الوضوء حتى تقبل على الله تعالى طاهراً متهيئاً لمناجاته ودعائه وأن تستقبل القبلة، فإذا دعوت الله تعالى فلتبدأ بحمده والثناء عليه تبارك وتعالى، ثم بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ابدأ بعد ذلك في دعائك ومسألتك، واختر أحسن الألفاظ وأنبلها وأجمعها للمعاني وأبينها، ولا أحسن مما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة، فإن الأدعية القرآنية والأدعية النبوية أولى ما يدعى به بعد تفهمها وتدبرها؛ لأنها أكثر بركة، ولأنها جامعة للخير كله، في أشرف الألفاظ وأفضل العبارات وألطفها، ولأن الغلط يعرض كثيرا في الأدعية التي يختارها الناس، لاختلاف معارفهم، وتباين مذاهبهم في الاعتقاد والانتحال.
ويكون الدعاء مقبولا عند الله تعالى إذا كان الداعي مخلصاً، فإن الدعاء عبادة من العبادات، بل هو من أشرف الطاعات وأفضلِ القربات، ولا يقبل الله من ذلك إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم، قال الله تعالى: (فَادْعُواْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(غافر: 14)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله).
والداعي الصبور أقرب إلى إجابة دعائه من العجول، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن استعجال الإجابة ففي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: “يُسْتَجَابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ فَيَقُولَ: قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لي”.
وقيل لبعض السلف: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال: “لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول صلى الله عليه وسلم فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، وأكلتم نعم الله فلم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس”.
حضور القلب
وحسن الظن بالله تعالى وحضور قلب الداعي، وتدبره معاني ما يقول من شروط إجابة الدعاء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه)، وعنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني)، قال الشوكاني: (فيه ترغيب من الله لعباده بتحسين ظنونهم، وأنه يعاملهم على حسبها، فمن ظن به خيراً أفاض عليه جزيل خيراته، وأسبل عليه جميع تفضلاته، ونثر عليه محاسن كراماته وسوابغ عطياته، ومن لم يكن في ظنه هكذا لم يكن الله تعالى له هكذا).
ولا يجوز للداعي أن يعتدي في الدعاء، والاعتداء هو كل سؤال يناقض حكمة الله، أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به، قال الله تعالى: (ادْعُواْ رَبكُمْ تَضَرعاً وَخُفْيَةً إِنهُ لاَ يُحِب الْمُعْتَدِينَ) (الأعراف: 55)، فمن ذلك: أن يسأل الله تعالى ما لا يليق به من منازل الأنبياء، أو يتنطع في السؤال بذكر تفاصيل يغني عنها العموم، أو يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على المحرمات، أو يسأل ما لا يفعله الله، مثل أن يسأله تخليده إلى يوم القيامة، أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب، أو أن يسأله أن يطلعه على غيبه، أو يسأله أن يجعله من المعصومين، أو يسأله أن يهب له ولداً من غير زوجة، أو يرفع صوته بالدعاء، قال ابن جريج: من الاعتداء رفع الصوت بالدعاء، أو يدعو مع الله تعالى غيره، قال ابن القيم: “أخبر تعالى أنه لا يحب أهل العدوان، وهم الذين يدعون معه غيره، فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانا”، أو أن يدعو غير متضرع، بل دعاء مدل، كالمستغني بما عنده، المدل على ربه به، قال ابن القيم: “هذا من أعظم الاعتداء، المنافي لدعاء الضارع الذليل الفقير المسكين من كل جهة في مجموع حالاته، فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد”.
ولا يجوز لداعٍ الدعاء على الأهل والمال والنفس، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم: “لا تَدْعُوا على أنْفُسِكُمْ، وَلا تَدْعُوا على أوْلادِكُمْ، وَلا تَدْعُوا على خَدَمِكمْ، ولا تَدْعُوا على أمْوَالِكُمْ، لا تُوافِقُوا مِنَ اللهِ ساعَةً نِيْلَ فيها عَطاءٌ فَيُسْتَجابَ مِنْكُمْ”، ويكره رفع الصوت بالدعاء مطلقا لقوله تعالى: (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء: 110)، والمقصود بالصلاة هنا: الدعاء.
ولا يجوز تكلّف السجع في الدعاء، لما أخرجه البخاري من قول ابن عباس رضي الله عنهما: انظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفعلون إلا ذلك، يعني لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب”.
إجابة الدعاء
وعلى كل مسلم يرغب بصدق أن يكون مستجاب الدعوة أن يكون من أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب طاقته وجهده، فعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، فتدعونه فلا يستجاب لكم).
ومن أراد أن يستجاب لدعائه فيجب أن يكون ممن يحرصون على اللقمة الحلال، فلا يُدخل بطنه حراما لقوله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يَا أَيهَا الرسُلُ كُلُوا مِنَ الطيبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِني بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (المؤمنون51)، وقال: (يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِياهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة: 172)، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك) (رواه مسلم والترمذي).
والداعي الراجي إجابة دعائه عليه أن يترصدَ الأزمان الشريفة؛ كيوم عَرَفَة وشهر رمضان ويوم الجمعة والثلث الأخير من الليل ووقت الأسحار، وأن يغتنمَ الأحوالَ الشريفة؛ كحالة السجود، والتقاء الجيوش، ونزول الغيث، وإقامة الصلاة وبعدَها، وأن يجزمَ بالطلب ويُوقن بالإِجابة ويصدقَ رجاءه فيها، وأن يُلحّ في الدعاء ويكرّره ثلاثاً ولا يستبطئ الإِجابة.
وكان الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن همّ الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه).
منقول من جريدة الخليج
الإمارات
9-6-2006